فقــه الزكـاة
الجزء الأول
مقدمة الطبعة السادسة عشرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (من "خطبة الحاجة" التي كان يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ورواها عنه ستة منهم، وهي في صحيح مسلم وغيره). صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد .
عناية الإسلام بالمجتمع الإنساني
فقد عُنِيَ الإسلام في كتابه وسنته بالمجتمع الإنساني، وعلاج مشكلاته وأدوائه، وذلك لأنه دين إنساني، جاء بتكريم الإنسان، وتحرير الإنسان، ففيه تتعانق المعاني الروحية والمعاني الإنسانية، وتسيران جنبًا إلى جنب.
والإسلام لا يتصور الإنسان فردًا منقطعًا في فلاة، أو منعزلاً في كهف أو دير، بل يتصوره دائمًا في مجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه . ويعطيه كما يأخذ منه، ولهذا خاطب الله بالتكاليف الجماعة المؤمنة لا الفرد المؤمن: (يا أيها الذين آمنوا)، وكانت مناجاة المؤمن لربه في صلاته بلسان الجماعة لا بضمير المفرد: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم) (الفاتحة: 5/6) .لهذا قلنا: إن مقتضى عناية الإسلام بالإنسان، العناية بالمجتمع كله، فالإنسان اجتماعي بالفطرة، أو مدني بالطبع، على حد تعبير القدماء.
وإذا كان الإسلام قد عُنِيَ بالمجتمع عمومًا، فإنه عُنِيَ عناية خاصة بالفئات الضعيفة فيه، وهذا سر ما نلاحظه في القرآن الكريم من تكرار الدعوة إلى الإحسان باليتامى والمساكين وابن السبيل وفى الرقاب، يستوي في ذلك مكي القرآن ومدنيه . وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكو ضعفًا في ناحية، فاليتيم ضعفه من فقد الأب، والمسكين ضعفه من فقد المال، وابن السبيل ضعفه من فقد الوطن، والرقيق ضعفه من فقد الحرية.
وإذا كانت بعض المجتمعات تهمل هذه الفئات الشعبية الضعيفة، ولا تلقى لها بالاً في سياستها الاجتماعية والاقتصادية، ولا تكاد تعترف لها بحق: لأنها لا تُرْجَى ولا تُخْشَى، وليس بيدها خزائن المال، ولا مقاليد السلطان - فإن رسول الإسلام محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد نبه على قيمة هذه الفئات ومكانها من المجتمع، فهي عدة النصر في الحرب، وصانعة الإنتاج في السلم؛ فبجهادها وإخلاصها يتنزل نصر الله على الأمة كلها، وبجهودها وكدحها في سبيل الإنتاج يتوافر الرزق لها.
وإلى هذه الحقيقة يشير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبى وقاص، حين قال له فيما رواه البخاري: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم" ؟.
ومن هنا حرص الإسلام على أن تكون هذه الفئات الجاهدة المجاهدة، مستريحة في حياتها، مطمئنة إلى أن معيشتها مكفولة، وأن حقوقها في العيش الكريم مضمونة، بحيث يجب أن يوفر لكل فرد فيها على الأقل حد الكفاية، بل تمام الكفاية من مطالب الحياة الأساسية، إذا عجز عن العمل، أو قدر عليه ولم يجده، أو وجده ولم يكن دخله منه يكفيه، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها. على أن الإسلام لم يغفل من حسابه أن القوي قد تطرأ عليه ظروف تجعله في مركز الضعف والحاجة، لغرم في مصلحة خاصة أو عامة، أو لانقطاعه عن ماله ووطنه في سفر وغربة، ففرض لهذا النوع من الزكاة ما ينهض بهم إذ عثروا، ويمدهم بالقوة إذ ضعفوا.
ولكن ما المورد المالي الذي يحقق هذه الأهداف، ويفي بهذه المطالب ؟.
هنا يأتي دور الزكاة التي جعل الشرع جل حصيلتها لهذه الأغراض الاجتماعية، وهى ليست بالشيء الهين، إنها العشر أو نصفه مما أنبت الله من الثروة الزراعية، وربع العشر من الثروة النقدية والتجارية، ونحو هذا المقدار - تقريبًا - من الثروة الحيوانية، وخمس ما يعثر عليه من الكنوز، بالإضافة إلى خمس الثروة المعدنية والبحرية كما يرى بعض الفقهاء.
ولقد كان من روائع الإسلام، بل من معجزاته الدالة على أنه دين الله حقًا، أنه سبق الزمن، وتخطى القرون، فعنى - منذ أربعة عشر قرنًا مضت - بعلاج مشكلة الفقر والحاجة، ووضع الفقراء والمحتاجين، دون أن يقوموا بثورة، أو يطالبوا - أو يطالب لهم أحد بحياة إنسانية كريمة، بل دون أن يفكروا هم مجرد تفكير في أن لهم حقوقًا على المجتمع يجب أن تؤدى، فقد توارث هؤلاء على مر السنين والقرون أن الحقوق لغيرهم، وأما الواجبات فعليهم!!.
ولم تكن عناية الإسلام بهذا الأمر سطحية ولا عارضة، فقد جعلها من خاصة أسسه، وصلب أصوله، وذلك حين فرض للفقراء وذوى الحاجة حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء، يَكْفُر مَن جَحَدَه، ويَفْسُق من تَهرَّب منه، ويُؤخذ بالقوة ممن منعه، وتُعلن الحرب من أجل استيفائه ممن أبَى وتمرد.
كان ذلك الحق هو الزكاة ؛ الفريضة الإسلامية العظيمة التي اهتم بها القرآن والسنة، وجعلاها ثالثة دعائم الإسلام.
أهمية موضوع الزكاة
هذه الفريضة الجليلة - الزكاة - لها أكثر من وجه يجعل لها أهمية خاصة.
فهي - من جهة - عبادة من العبادات الأربع، كالصلاة والصيام والحج، ومن هذا الوجه تقرن في القرآن والحديث بالصلاة، وتأتى بعدها عادة في كتب الفقه في قسم العبادات. وهى - من وجه آخر - مورد أساسي من الموارد المالية في الدولة الإسلامية، وهذا يخرجها عن أن تكون عبادة محضة، فهي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، ولهذا عنيت بها كتب الفقه المالي في الإسلام مثل: "الخراج" لأبى يوسف، و"الخراج" ليحيى بن آدم، و "الأموال" لأبى عبيد، و"الأموال" لابن زنجويه، وغيرها. ومثلها كتب السياسة الشرعية، مثل: "الأحكام السلطانية" لكل من الماوردي، وأبى يعلى، و"السياسة الشرعية" لابن تيمية ونحوها.
وهى -من وجه ثالث- المؤسسة الأولى للضمان الاجتماعي في الإسلام، ونظرة سريعة إلى مصرفها، كما نص عليها القرآن، تشير بوضوح إلى الوجه الاجتماعي للزكاة، وإلى الأهداف الإنسانية التي تتوخى تحقيقها في المجتمع المسلم، فإن خمسة من مصارفها الثمانية تتمثل في ذوى الحاجات الأصلية أو الطارئة من الفقراء والمساكين وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل، ومصرف سادس لخدمة هذه المصارف وهو الجهاز الإداري لجمع الزكاة وتفريقها.
أما المصرفان الباقيان فلهما علاقة بسياسة الدولة الإسلامية ورسالتها في العالم، ومهمتها في الداخل والخارج، فلها -من مال الزكاة- أن تؤلف القلوب على الإسلام، استمالة إليه، أو تثبيتًا عليه، أو ترغيبًا في الولاء لأمته، والمناصرة لدولته، أو نحو ذلك مما تقتضيه المصلحة العليا للأمة.
كما أن للزكاة دورًا في تمويل الجهاد، ومنه نشر الدعوة، وحماية الأمة من الفتنة، وإعانة المجاهدين والدعاة حتى تعلو كلمة الإسلام، ويظهر دين محمد -صلى الله عليه وسلم- على الدين كله، ولو كره المشركون.
وربما يقول بعض الناس: إن كتبنا القديمة قد حفلت بالشيء الكثير عن الزكاة وأحكامها، وفصلت فيها القول، حيث تعرض لها المفسرون والمحدثون والفقهاء، كل في مجال اختصاصه، وخلفوا لنا من بحوثهم ثروة غير قليلة. فما وجه حاجتنا إلى بحث جديد، وما مهمة هذا البحث؟.
والجواب: إن مادة البحث المتعلقة بالزكاة غزيرة وموفورة بلا ريب. ولكن يلاحظ على هذه المادة أمور:
(أ) أنها كتبت بلسان غير لسان عصرنا، إذ لا شك أنها تحمل طابع عصرها، من حيث العرض والأسلوب والتقسيم والمصطلحات والتقديرات وغيرها. فلا بد من إعادة عرضها عرضًا يلائم روح العصر، ويعين على تصور حكم الإسلام فيها، كما يجب ترجمة المعايير والتقديرات القديمة إلى مقاييس زمننا، ليمكن فهمها وتطبيقها.
(ب) أن هذه المادة مبعثرة بين مختلف المصادر والمظان: من كتب التفسير إلى كتب الحديث، إلى كتب الفقه العامة، إلى كتب الفقه المالي والإداري، وغيرها من مراجع الثقافة الإسلامية؛ فلا بد من جمع شتاتها، وضم بعضها إلى بعض ضمًا يجعل منها عقدًا منتظمًا.
(جـ) أنها بقدر غزارتها حافلة بالاختلافات بين المذاهب بعضها وبعض، وفى داخل كل مذهب بين الروايات والأقوال والوجوه، وما حولها من تصحيحات وترجيحات. وهذا -برغم دلالته على الخصوبة والسعة والتسامح الفكري- يجعل أخذ رأى من الآراء المعروضة للعمل به أمرًا صعبًا، وخصوصًا إذا تولت أمر الزكاة مؤسسة عامة من قبل الدولة، أو بإشرافها.
فلا بد إذن من اختيار أرجح الآراء، وفقًا لنصوص الشريعة ومقاصدها الكلية، وقواعدها العامة، مع مراعاة طبيعة عصرنا، وتطور أوضاع المجتمع الإسلامي فيه، فقد يصلح رأى لزمن ولا يصلح لغيره، ويصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى، ويفتى به في حال، ولا يفتى به في حال آخر . ولهذا قرر المحققون كابن القيم وغيره: أن الفتوى تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والعوائد.
(د) أن هناك أموالاً جدت في عصرنا لم تكن معروفة في عصور الاجتهاد الفقهي، وإن كان بعضها موجودًا، فهو لم يكن بحجمه اليوم، كالعمارات السكنية الاستغلالية والمصانع والأسهم وغيرها. فما رأى الفقه المعاصر فيها ؟ وما موقف المجتهد المسلم منها ؟. لا بد من جواب بالإثبات أو النفي أو التفصيل.
(هـ) أنها لم تُعطَ عناية كبيرة لتجلية الأهداف والمقاصد الإنسانية والاجتماعية المنوطة بهذه الفريضة، لعدم شعورهم بكثير من الحاجة إليها، ونظرًا لغلبة الطابع التعبدي عليها، وإن كان الباحث الصبور لا يعوزه أن يجد هنا وهناك لقطات وقبسات ذات دلالة واضحة.
فلا بد من تجلية هذه الأهداف، وإلقاء الضوء الكافي عليها، وبخاصة أن غلبة الشكوك والشبهات في زمننا - نتيجة ضعف المسلمين وتخلفهم، وقوة خصومهم وتقدمهم - جعلت العقول لا تكتفي بمعرفة الحكم حتى تدرك سره وحكمته.
ولنا في تعليلات القرآن والسنة للأحكام والأوامر والنواهي، بشتى أساليب التعليل وأدواته - أسوة حسنة.
(و) وبعد ذلك، أن لكل عصر اهتماماته ومشكلاته الفكرية والنفسية والاجتماعية، التي تشغل أهله، وتترك أثرها في إنتاجهم العلمي، وتراثهم الفكري، ثم يأتي عصر آخر، فتنطفئ جمرة هذه المشكلات، وتخف حرارتها حتى تتحول إلى رماد. على حين تثور قضايا ومشكلات جديدة تشغل أفكار اللاحقين، لم تكن ذات بال، بل ربما لم يكن لها وجود عند السابقين.
وفى عصرنا برزت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في العالم كله، وتعددت المذاهب والأنظمة الداعية إلى حلها، وقام من أجل ذلك صراع مذهبي رهيب، قسم العالم إلى معسكرين فكريين متقابلين: معسكر الرأسمالية ومن يمشى في ركابها، ومعسكر الشيوعية ومن يدور في فلكها؛ على حين يقف المسلمون بين هؤلاء وهؤلاء متفرجين أحيانًا، ومائلين أحيانًا أخرى إلى هذا المعسكر أو ذاك، كأنما ليس لهم نظامهم الفذ، ومذهبهم المتميز الذي جعلهم الله به أمة وسطًا.
ولا بد أن يسهم الباحثون المسلمون - بقدر ما آتاهم الله من علم وفكر - في توضيح الفكرة الإسلامية، وتحديد الموقف الإسلامي، وخاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. حتى نستغني بما عندنا عن الاستيراد من عند غيرنا، ولا سيما إذا كان ما عندنا أعدل وأكمل وأمثل؛ لأنه صبغة الله: (ومن أحسن من الله صبغة) (البقرة: 138).
ولعل هذا الكتاب يساهم بنصيب متواضع فى هذه السبيل، وعسى أن تتبعه بحوث وبحوث، تجلى ما نقصد إليه من بيان تميز الإسلام وتفوقه على جميع المذاهب الاجتماعية في العالم.
كلمة عن مصادر الاستدلال والمعرفة للزكاة
لن أتحدث هنا عن منهج البحث في هذا الكتاب وقواعده في الاستنباط والاختيار والترجيح، فقد وضحت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى، ولكنى أزيد هنا كلمة عن مصادر المعرفة والاستدلال، التي اعتمدت عليها، وموقفي منها.
وإذا كان البحث عن "فقه الزكاة" في الإسلام، فلا بد من الرجوع إلى منابع أو مصادر المعرفة الإسلامية الصحيحة، لنتبين منها حقيقة الزكاة وأهدافها، كما جاء بها الإسلام. ولا بد من تحديد قيمة كل مصدر منها، ومرتبته من غيره، وطريقة الأخذ منه والاستدلال به.
يتبع ...
الجزء الأول
مقدمة الطبعة السادسة عشرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (من "خطبة الحاجة" التي كان يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ورواها عنه ستة منهم، وهي في صحيح مسلم وغيره). صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد .
عناية الإسلام بالمجتمع الإنساني
فقد عُنِيَ الإسلام في كتابه وسنته بالمجتمع الإنساني، وعلاج مشكلاته وأدوائه، وذلك لأنه دين إنساني، جاء بتكريم الإنسان، وتحرير الإنسان، ففيه تتعانق المعاني الروحية والمعاني الإنسانية، وتسيران جنبًا إلى جنب.
والإسلام لا يتصور الإنسان فردًا منقطعًا في فلاة، أو منعزلاً في كهف أو دير، بل يتصوره دائمًا في مجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه . ويعطيه كما يأخذ منه، ولهذا خاطب الله بالتكاليف الجماعة المؤمنة لا الفرد المؤمن: (يا أيها الذين آمنوا)، وكانت مناجاة المؤمن لربه في صلاته بلسان الجماعة لا بضمير المفرد: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم) (الفاتحة: 5/6) .لهذا قلنا: إن مقتضى عناية الإسلام بالإنسان، العناية بالمجتمع كله، فالإنسان اجتماعي بالفطرة، أو مدني بالطبع، على حد تعبير القدماء.
وإذا كان الإسلام قد عُنِيَ بالمجتمع عمومًا، فإنه عُنِيَ عناية خاصة بالفئات الضعيفة فيه، وهذا سر ما نلاحظه في القرآن الكريم من تكرار الدعوة إلى الإحسان باليتامى والمساكين وابن السبيل وفى الرقاب، يستوي في ذلك مكي القرآن ومدنيه . وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكو ضعفًا في ناحية، فاليتيم ضعفه من فقد الأب، والمسكين ضعفه من فقد المال، وابن السبيل ضعفه من فقد الوطن، والرقيق ضعفه من فقد الحرية.
وإذا كانت بعض المجتمعات تهمل هذه الفئات الشعبية الضعيفة، ولا تلقى لها بالاً في سياستها الاجتماعية والاقتصادية، ولا تكاد تعترف لها بحق: لأنها لا تُرْجَى ولا تُخْشَى، وليس بيدها خزائن المال، ولا مقاليد السلطان - فإن رسول الإسلام محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد نبه على قيمة هذه الفئات ومكانها من المجتمع، فهي عدة النصر في الحرب، وصانعة الإنتاج في السلم؛ فبجهادها وإخلاصها يتنزل نصر الله على الأمة كلها، وبجهودها وكدحها في سبيل الإنتاج يتوافر الرزق لها.
وإلى هذه الحقيقة يشير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبى وقاص، حين قال له فيما رواه البخاري: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم" ؟.
ومن هنا حرص الإسلام على أن تكون هذه الفئات الجاهدة المجاهدة، مستريحة في حياتها، مطمئنة إلى أن معيشتها مكفولة، وأن حقوقها في العيش الكريم مضمونة، بحيث يجب أن يوفر لكل فرد فيها على الأقل حد الكفاية، بل تمام الكفاية من مطالب الحياة الأساسية، إذا عجز عن العمل، أو قدر عليه ولم يجده، أو وجده ولم يكن دخله منه يكفيه، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها. على أن الإسلام لم يغفل من حسابه أن القوي قد تطرأ عليه ظروف تجعله في مركز الضعف والحاجة، لغرم في مصلحة خاصة أو عامة، أو لانقطاعه عن ماله ووطنه في سفر وغربة، ففرض لهذا النوع من الزكاة ما ينهض بهم إذ عثروا، ويمدهم بالقوة إذ ضعفوا.
ولكن ما المورد المالي الذي يحقق هذه الأهداف، ويفي بهذه المطالب ؟.
هنا يأتي دور الزكاة التي جعل الشرع جل حصيلتها لهذه الأغراض الاجتماعية، وهى ليست بالشيء الهين، إنها العشر أو نصفه مما أنبت الله من الثروة الزراعية، وربع العشر من الثروة النقدية والتجارية، ونحو هذا المقدار - تقريبًا - من الثروة الحيوانية، وخمس ما يعثر عليه من الكنوز، بالإضافة إلى خمس الثروة المعدنية والبحرية كما يرى بعض الفقهاء.
ولقد كان من روائع الإسلام، بل من معجزاته الدالة على أنه دين الله حقًا، أنه سبق الزمن، وتخطى القرون، فعنى - منذ أربعة عشر قرنًا مضت - بعلاج مشكلة الفقر والحاجة، ووضع الفقراء والمحتاجين، دون أن يقوموا بثورة، أو يطالبوا - أو يطالب لهم أحد بحياة إنسانية كريمة، بل دون أن يفكروا هم مجرد تفكير في أن لهم حقوقًا على المجتمع يجب أن تؤدى، فقد توارث هؤلاء على مر السنين والقرون أن الحقوق لغيرهم، وأما الواجبات فعليهم!!.
ولم تكن عناية الإسلام بهذا الأمر سطحية ولا عارضة، فقد جعلها من خاصة أسسه، وصلب أصوله، وذلك حين فرض للفقراء وذوى الحاجة حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء، يَكْفُر مَن جَحَدَه، ويَفْسُق من تَهرَّب منه، ويُؤخذ بالقوة ممن منعه، وتُعلن الحرب من أجل استيفائه ممن أبَى وتمرد.
كان ذلك الحق هو الزكاة ؛ الفريضة الإسلامية العظيمة التي اهتم بها القرآن والسنة، وجعلاها ثالثة دعائم الإسلام.
أهمية موضوع الزكاة
هذه الفريضة الجليلة - الزكاة - لها أكثر من وجه يجعل لها أهمية خاصة.
فهي - من جهة - عبادة من العبادات الأربع، كالصلاة والصيام والحج، ومن هذا الوجه تقرن في القرآن والحديث بالصلاة، وتأتى بعدها عادة في كتب الفقه في قسم العبادات. وهى - من وجه آخر - مورد أساسي من الموارد المالية في الدولة الإسلامية، وهذا يخرجها عن أن تكون عبادة محضة، فهي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، ولهذا عنيت بها كتب الفقه المالي في الإسلام مثل: "الخراج" لأبى يوسف، و"الخراج" ليحيى بن آدم، و "الأموال" لأبى عبيد، و"الأموال" لابن زنجويه، وغيرها. ومثلها كتب السياسة الشرعية، مثل: "الأحكام السلطانية" لكل من الماوردي، وأبى يعلى، و"السياسة الشرعية" لابن تيمية ونحوها.
وهى -من وجه ثالث- المؤسسة الأولى للضمان الاجتماعي في الإسلام، ونظرة سريعة إلى مصرفها، كما نص عليها القرآن، تشير بوضوح إلى الوجه الاجتماعي للزكاة، وإلى الأهداف الإنسانية التي تتوخى تحقيقها في المجتمع المسلم، فإن خمسة من مصارفها الثمانية تتمثل في ذوى الحاجات الأصلية أو الطارئة من الفقراء والمساكين وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل، ومصرف سادس لخدمة هذه المصارف وهو الجهاز الإداري لجمع الزكاة وتفريقها.
أما المصرفان الباقيان فلهما علاقة بسياسة الدولة الإسلامية ورسالتها في العالم، ومهمتها في الداخل والخارج، فلها -من مال الزكاة- أن تؤلف القلوب على الإسلام، استمالة إليه، أو تثبيتًا عليه، أو ترغيبًا في الولاء لأمته، والمناصرة لدولته، أو نحو ذلك مما تقتضيه المصلحة العليا للأمة.
كما أن للزكاة دورًا في تمويل الجهاد، ومنه نشر الدعوة، وحماية الأمة من الفتنة، وإعانة المجاهدين والدعاة حتى تعلو كلمة الإسلام، ويظهر دين محمد -صلى الله عليه وسلم- على الدين كله، ولو كره المشركون.
وربما يقول بعض الناس: إن كتبنا القديمة قد حفلت بالشيء الكثير عن الزكاة وأحكامها، وفصلت فيها القول، حيث تعرض لها المفسرون والمحدثون والفقهاء، كل في مجال اختصاصه، وخلفوا لنا من بحوثهم ثروة غير قليلة. فما وجه حاجتنا إلى بحث جديد، وما مهمة هذا البحث؟.
والجواب: إن مادة البحث المتعلقة بالزكاة غزيرة وموفورة بلا ريب. ولكن يلاحظ على هذه المادة أمور:
(أ) أنها كتبت بلسان غير لسان عصرنا، إذ لا شك أنها تحمل طابع عصرها، من حيث العرض والأسلوب والتقسيم والمصطلحات والتقديرات وغيرها. فلا بد من إعادة عرضها عرضًا يلائم روح العصر، ويعين على تصور حكم الإسلام فيها، كما يجب ترجمة المعايير والتقديرات القديمة إلى مقاييس زمننا، ليمكن فهمها وتطبيقها.
(ب) أن هذه المادة مبعثرة بين مختلف المصادر والمظان: من كتب التفسير إلى كتب الحديث، إلى كتب الفقه العامة، إلى كتب الفقه المالي والإداري، وغيرها من مراجع الثقافة الإسلامية؛ فلا بد من جمع شتاتها، وضم بعضها إلى بعض ضمًا يجعل منها عقدًا منتظمًا.
(جـ) أنها بقدر غزارتها حافلة بالاختلافات بين المذاهب بعضها وبعض، وفى داخل كل مذهب بين الروايات والأقوال والوجوه، وما حولها من تصحيحات وترجيحات. وهذا -برغم دلالته على الخصوبة والسعة والتسامح الفكري- يجعل أخذ رأى من الآراء المعروضة للعمل به أمرًا صعبًا، وخصوصًا إذا تولت أمر الزكاة مؤسسة عامة من قبل الدولة، أو بإشرافها.
فلا بد إذن من اختيار أرجح الآراء، وفقًا لنصوص الشريعة ومقاصدها الكلية، وقواعدها العامة، مع مراعاة طبيعة عصرنا، وتطور أوضاع المجتمع الإسلامي فيه، فقد يصلح رأى لزمن ولا يصلح لغيره، ويصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى، ويفتى به في حال، ولا يفتى به في حال آخر . ولهذا قرر المحققون كابن القيم وغيره: أن الفتوى تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والعوائد.
(د) أن هناك أموالاً جدت في عصرنا لم تكن معروفة في عصور الاجتهاد الفقهي، وإن كان بعضها موجودًا، فهو لم يكن بحجمه اليوم، كالعمارات السكنية الاستغلالية والمصانع والأسهم وغيرها. فما رأى الفقه المعاصر فيها ؟ وما موقف المجتهد المسلم منها ؟. لا بد من جواب بالإثبات أو النفي أو التفصيل.
(هـ) أنها لم تُعطَ عناية كبيرة لتجلية الأهداف والمقاصد الإنسانية والاجتماعية المنوطة بهذه الفريضة، لعدم شعورهم بكثير من الحاجة إليها، ونظرًا لغلبة الطابع التعبدي عليها، وإن كان الباحث الصبور لا يعوزه أن يجد هنا وهناك لقطات وقبسات ذات دلالة واضحة.
فلا بد من تجلية هذه الأهداف، وإلقاء الضوء الكافي عليها، وبخاصة أن غلبة الشكوك والشبهات في زمننا - نتيجة ضعف المسلمين وتخلفهم، وقوة خصومهم وتقدمهم - جعلت العقول لا تكتفي بمعرفة الحكم حتى تدرك سره وحكمته.
ولنا في تعليلات القرآن والسنة للأحكام والأوامر والنواهي، بشتى أساليب التعليل وأدواته - أسوة حسنة.
(و) وبعد ذلك، أن لكل عصر اهتماماته ومشكلاته الفكرية والنفسية والاجتماعية، التي تشغل أهله، وتترك أثرها في إنتاجهم العلمي، وتراثهم الفكري، ثم يأتي عصر آخر، فتنطفئ جمرة هذه المشكلات، وتخف حرارتها حتى تتحول إلى رماد. على حين تثور قضايا ومشكلات جديدة تشغل أفكار اللاحقين، لم تكن ذات بال، بل ربما لم يكن لها وجود عند السابقين.
وفى عصرنا برزت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في العالم كله، وتعددت المذاهب والأنظمة الداعية إلى حلها، وقام من أجل ذلك صراع مذهبي رهيب، قسم العالم إلى معسكرين فكريين متقابلين: معسكر الرأسمالية ومن يمشى في ركابها، ومعسكر الشيوعية ومن يدور في فلكها؛ على حين يقف المسلمون بين هؤلاء وهؤلاء متفرجين أحيانًا، ومائلين أحيانًا أخرى إلى هذا المعسكر أو ذاك، كأنما ليس لهم نظامهم الفذ، ومذهبهم المتميز الذي جعلهم الله به أمة وسطًا.
ولا بد أن يسهم الباحثون المسلمون - بقدر ما آتاهم الله من علم وفكر - في توضيح الفكرة الإسلامية، وتحديد الموقف الإسلامي، وخاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. حتى نستغني بما عندنا عن الاستيراد من عند غيرنا، ولا سيما إذا كان ما عندنا أعدل وأكمل وأمثل؛ لأنه صبغة الله: (ومن أحسن من الله صبغة) (البقرة: 138).
ولعل هذا الكتاب يساهم بنصيب متواضع فى هذه السبيل، وعسى أن تتبعه بحوث وبحوث، تجلى ما نقصد إليه من بيان تميز الإسلام وتفوقه على جميع المذاهب الاجتماعية في العالم.
كلمة عن مصادر الاستدلال والمعرفة للزكاة
لن أتحدث هنا عن منهج البحث في هذا الكتاب وقواعده في الاستنباط والاختيار والترجيح، فقد وضحت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى، ولكنى أزيد هنا كلمة عن مصادر المعرفة والاستدلال، التي اعتمدت عليها، وموقفي منها.
وإذا كان البحث عن "فقه الزكاة" في الإسلام، فلا بد من الرجوع إلى منابع أو مصادر المعرفة الإسلامية الصحيحة، لنتبين منها حقيقة الزكاة وأهدافها، كما جاء بها الإسلام. ولا بد من تحديد قيمة كل مصدر منها، ومرتبته من غيره، وطريقة الأخذ منه والاستدلال به.
يتبع ...